ما إن قوَّضت الثورات
الديمقراطية خيامها في عدد من البلدان ، حتى صار حديث الساسة لا يفارق
جملة '' إرساء النظام الديمقراطي و ترسيخه .. '' ، حتى دعاة الإسلام و
خصوصا الفاعلين السياسيين منهم ، ما خلت رسائلهم و خطاباتهم من كلمة ''
الديمقراطية '' ، بل صارت تحتل محل الصدارة متقدمة على كلمات مألوفة في
الخطاب الإسلامي مثل القيم و الأخلاق و المبادئ و الدين .. تُرى كيف أمكن
لهذه الكلمة الساحرة أن تُحدث كل هذه الرَّجة في المفاهيم المتداولة ؟ هل
صحيح أن غائية الثورات هي الديمقراطية ؟
لوضع مقاربة شاملة للأسئلة المطروحة ، لا بد من التعريف بهذه الكلمة '' اللامعة '' ،
لا بد من غوص في أعماق بحر هذا المفهوم . فكما هو معلوم فإن ترجع لفظة ''
الديمقراطية '' ترجع من حيث الاشتقاق ، إلى اللفظتين اليونانيتين؛ ديمو
تعني الشعب ، و كراتين تعني الحكم . و تدل على نظام سياسي ، يرى أن السيادة
تنبثق من مجموع مواطني بلد ما ، و من إرادتهم الحرة . لكن مفهوم
الديمقراطية ، لم يتوقف عند هذا الحد ، بل تم تطوير المفهوم في كل من الغرب
و الرقعة الإسلامية. غير أن المتفق عليه ، هو سيادة الشعب من خلال التعبير
عن إرادته الحرة في الانتخابات ، بمعنى أن الشعب هو الأصل . و فلسفة
الديمقراطية في الغرب تقوم على أن ممثلي الشعب يشرعون تبعا لإرادة الجماهير
دون الاستناد لأي مرجعية عليا ، و بتعبير الدكتور أحمد الريسوني ، فإن
مرجعية الديمقراطية في الغرب هي الديمقراطية نفسها. أما في العالم الإسلامي
فهذه المنهجية السياسية ، أثارت زوابع و توابع لم تخف و طأتها إلا في
السنوات القليلة الماضية ، منذ ما يقارب من قرنين ، كتب الشيخ عبد السلام
ياسين في كتابه القيم '' حوار مع الفضلاء الديمقراطيين '' :( كلمة
الديمقراطية تعني حكم الشعب و اختيار الشعب و الاحتكام إلى الشعب. و هذا
أمر ندعو إليه و لا نرضى بغيره ، على يقين نحن من أن الشعب المسلم العميق
الإسلام لن يختار إلا الحكم بما أنزل الله ، وهو الحكم الإسلامي ..) . كما
أن الشيخ راشد الغنوشي كان له قصب السبق في القبول بالديمقراطية ، حيث يقول
في كتابه '' مقاربات في العَلمانية و المجتمع المدني '' : ( ... و هنا
يكون اللقاء بين الإسلام و الديموقراطية ، و هو لقاء قديم تم دون حاجة إلى
إجراء ات. و تأتي الإجراء ات التي طورها الغرب ، مكسبا عظيما ينقل الشورى
من كونها مبدأ و قيمة ، إلى كونها نظاما منضبطا للتعبير عن إرادة الأمة و
قوامتها على حكامها .. ) . أما الدكتور أحمد الريسوني فقد عالج الإشكالات
المرتبطة بتطبيق الديمقراطية ، بعقلية الفقيه و منهجية الأصولي و خلفية
المقاصدي ، في كتابه '' الأمة هي الأصل '' ، مبينا في ما يخص ؛ حكم الشعب
نفسه بنفسه و الحكم بالأغلبية و قاعدة فصل السلط ، الأصول التاريخية لها في
الإسلام منذ عهد الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم .
لا
يختلف اثنان ، في أن الديمقراطية أحدثت رجة في العوالم السياسية في العصر
الحالي ، فلا تقترن استقامة و عدالة نظام سياسي معين إلا بمدى تشبته
بالديمقراطية و التزامه بها . و قد فتنت هذه الكلمة الجماهير المثقفة في
العالم بأسره ، و خصوصا عندما صارت رديفة الحريات السياسية و حرية الرأي و
التعبير . لكن مخطئ ، في نظري ، من يعتقد أن غائية الثورات التي هبت في بعض
الدول الإسلامية هي الديمقراطية ؛ لأن الشعوب عندما خرجت البداية ، كان
مطلبها هو العدالة الاجتماعية ، بعد أن ضاقت عليها الأرض بما رحبت جراء
تفشي البطالة و الفقر .. و بالتالي ، فإن الشعوب رغبتها تتمثل في العيش
الكريم و الرخاء الاجتماعي و تكافؤ الفرص أمام المصالح ، كل هذا في ظل
الكرامة و الحرية . فالإنسان ، و لو كان يعيش في رغد من العيش بحرية مأسورة
و كرامة مدسوسة ، لا ريب و أنه سيمل الحياة الموبوءة باليأس و المهانة .
و بالتالي ، لم
تجد الشعوب غير الديمقراطية مركبا إلى شاطئ ضمانات العيش الكريم ، بعد أن
أوصل الاستبداد اللائكي البلد إلى طريق مسدود . لكن ، يمكن لهذه
الديمقراطية أن تكون مزورة ، خصوصا إذا سارت إلى التغريب ، فالتحديث و
الديكتاتورية قرينان ، كما يقول الشيخ راشد الغنوشي . بالإضافة إلى أن ما
يثوي درة الغرب الفريدة ، حسب الدكتور حسن أوريد ، هو المال .
هل أعجبك الموضوع ؟